اغتيال البنا وشهادة مكرم عبيد- صداقة في زمن الانقسام

بعد مرور ثلاثة أشهر على إعلان رئيس الوزراء المصري آنذاك، محمود فهمي النقراشي، قرار حل جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة كافة أموالها، والقبض على أغلب أعضائها، تم اغتيال المؤسس الأول لتلك الجماعة، حسن البنا، في الثاني عشر من شهر فبراير لعام 1949، ليلفظ أنفاسه الأخيرة داخل أروقة مستشفى قصر العيني.
ورغبةً من الحكومة في إبقاء الجثمان داخل المستشفى، ليُنقل مباشرةً إلى مثواه الأخير، إلا أن إصرار والده الشديد دفعها للموافقة على نقله إلى منزله، مع اشتراط أن يتم الدفن في تمام الساعة التاسعة صباحًا، ومنع إقامة أي عزاء.
إذا كان الموت والحياة يتنازعان السيطرة في مملكة الإنسان، ويتبادلان النصر والهزيمة فيتساويان فالغلبة للحياة مع الذكرى وللموت مع النسيان ولهذا فالميت حي لديك إذا ذكرته، والحى ميت لديك إذا نسيته.
وقد منعت الأجهزة الأمنية، وبأوامر مباشرة من القصر الحاكم في ذلك الوقت، خروج أي رجل في جنازة البنا، ليحمل نعشه على الأكتاف النسائية، فيما قام رجال الأمن بمنع واعتقال كل من حاول الاقتراب من منزل البنا قبل موعد الدفن، ولم يتمكن من المشاركة في مراسم الجنازة سوى والده، بالإضافة إلى مكرم عبيد باشا، الذي استثناه الأمن من الاعتقال، نظرًا لمنصبه الوزاري الرفيع في الحكومة، ولكونه مسيحيًا. والجدير بالذكر أن علاقة صداقة وطيدة جمعت بين مكرم عبيد وحسن البنا لسنوات مديدة.
وبعد مرور ثلاث سنوات على حادثة اغتيال البنا المأساوية، تقدمت مجلة الدعوة، التي أنشأها نخبة من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، بطلب إلى السيد مكرم عبيد، بأن يسطر مقالًا موجزًا في ذكرى رحيل الإمام حسن البنا، وفي الثاني عشر من شهر فبراير لعام 1952، نُشر مقالًا بقلم مكرم عبيد، جاء فيه: "تفضلت مجلة الدعوة الغراء فطلبت إلي أن أكتب كلمة في ذكرى الراحل الكريم، الذي شاءت له رحمة الله أن يغادر هذه الدنيا الغادرة، إلى جوار ربه الرحمن الرحيم، كما شاءت لنا نحن رحمة الله أن يظل الراحل الذى فقدناه، ماثلا بيننا بذكراه وبتقواه".
وهل هذا الراحل الماثل، إلا فضيلة المرشد المغفور له الشيخ حسن البنا؟
أي نعم، فإذا كنتم أيها الإخوان المسلمون، قد فقدتم الحاكم الأكبر، الخالد الذكر، فحسبكم أن تذكروا أن هذا الرجل الذي أسلم وجهه لله حنيفا، قد أسلم روحه للوطن عفيفا، حسبكم أن تذكروه حيا في مجده، كلما ذكرتموه ميتا في لحده.
وإذا كان الموت والحياة يتنازعان السيطرة في مملكة الإنسان، ويتبادلان النصر والهزيمة فيتساويان فالغلبة للحياة مع الذكرى وللموت مع النسيان ولهذا فالميت حي لديك إذا ذكرته، والحى ميت لديك إذا نسيته.
وما من شك أن فضيلة الشيخ حسن البنا هو حي لدينا جميعا في ذكراه، بل كيف لا يحيا ويخلد في حياته رجل استوحى في الدين هدى ربه، ففي ذكره حياة له ولكم.
ومن ذا الذي يقول بهذا هو مكرم عبيد صديقه المسيحي الذي عرف في أخيه المسلم الكريم الصدق والصداقة معا، ولئن ذكرت فكيف لا أذكر كم تزاورنا وتآزرنا إبان حياته، ولئن شهدت فكيف لا أشهد بفضله بعد مماته، وما هي -وايم الحق- إلا شهادة صدق أشهد عليها ربي، إذ ينطق بها لساني من وحي قلبي.
بل هي شهادة رجل يجمع بينه وبين الفقيد العزيز الإيمان بوحدة ربه، وبوحدة شعبه، والتوحيد في جميع الأديان المنزلة لا يكفي فيه أن نوحد الله بل يجب أن نتوحد في الله كما أن وحدة الوطن لا يكفي فيها وحدة أرجائه، بل يجب أن تتوافر لها قبل كل شيء وحدة أبنائه.
ولقد كان الإخوان المسلمون والكتلة الوفدية هما الهيئتان الوحيدتان اللتان تبادلتا الزيارة في دار الإخوان ونادى الكتلة، بل كان لي الحظ أن يزورني ـ-رحمه الله- في منزلي، وأن نتبادل خلال حديث طويل المشاعر الشخصية والوطنية، وكنت أراه في حديثه أبعد ما يكون عن الشكليات والصغائر، مما جعلني أعتقد أنه رجل قَل مثيله بيننا في التعمق تفكيرا، وفي التنزه ضميرا.
ولقد زرته -رحمه الله- إثر موته في منزله، فكانت زيارة لن أنسى ما حييت أثرها الفاجع والدامع، ولقد هالني أن أجد قوة من البوليس تحاصر الشارع الذي به منزل الفقيد، ولولا أن ضابط البوليس عرفني فسمح لي بالمرور لما تيسر لي أن أؤدي واجب العزاء.
ولئن نسيت فلن أنسى كيف كان والده الشيخ البار متأثرا بهذه الزيارة، حتى إنه قصَ علينا والدمع يفيض من عينيه كيف منعوا الناس من تشييع جنازة الفقيد، ولم يسمح لغير والده بالسير وراء نعشه، كما لم يسمح للمعزين بالعزاء في منزله، وراح الوالد الكريم يشكرني، ويدعو لي دعواته المباركات التي ما زلت أتبرك بها، ولو أني قلت له إن واجب العزاء هو فرض واجب الأداء، فإذا ما قصرت فيه أنا أو أي مصري كان في ذلك تنكر لتقاليدنا وأوليات الوفاء.
إخواني: أي نعم، فأنتم إخواني أيها الإخوان المسلمون، أنتم إخواني وطنا وجنسا، بل إخواني نفسا وحسا، بل أنتم لي إخوان ما أقربكم إخوانا، لأنكم في الوطنية إخواني إيمانا، ولما كانت الوطنية من الإيمان فنحن إذن إخوان في الله الواحد المنان. وإذا ما ذكرتم اليوم الفضيلة في قبرها، فاذكروا أيضا ما كان يذكره هو على الدوام، إذ يذكر الحرية في سجنها.
فلنطالب إذن بتحرير بلادنا، وتحرير أولادنا المساجين المساكين، فإن الإفراج عنهم عزاء، وجزاء في وقت معا".
يجدر الإشارة إلى أن مكرم عبيد قد شارك في شبابه بدور محوري في ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني لمصر، تلك الثورة التي تُعتبر الحدث السياسي الأول الذي شهد مشاركة كافة أطياف الشعب المصري دون تمييز ديني، وبرز فيها شعار الهلال مع الصليب لأول مرة، رمزًا للوحدة الوطنية.
وكان مكرم عبيد هو أول من نطق بمقولة "مصر ليست وطنا نعيش فيه ولكنها وطن يعيش فينا"، وقد حظي بشعبية جارفة ومكانة مرموقة بصفته مصريًا، وليس مسيحيًا، وارتبطت أشهر أقواله المأثورة بالدين الإسلامي، فهو القائل: "اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارًا، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين".
أين مكرم عبيد، وأين الشيخ حسن البنا في مصر اليوم؟